هل فقدت الكرة الإيطالية بريقها الأوروبي؟

هل فقدت الكرة الإيطالية بريقها الأوروبي؟

مدافع من المنتخب الإيطالي يحتفل بتسجيل هدف في إحدى البطولات الكبرى
مدافع من المنتخب الإيطالي يحتفل بتسجيل هدف في إحدى البطولات الكبرى

مدافع من المنتخب الإيطالي يحتفل بتسجيل هدف في إحدى البطولات الكبرى. وعلى الرغم من نجاح المنتخب في يورو 2020، لا تزال الجماهير تتساءل عن مصير بريق الكرة الإيطالية على مستوى الأندية الأوروبية

مقدمة: مجد الأمس وتساؤلات اليوم

في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، تربعت الكرة الإيطالية على عرش أوروبا بلا منازع. آنذاك كانت أندية الدوري الإيطالي (الكالتشيو) الوجهة الأولى لألمع نجوم اللعبة، وحققت الأندية الإيطالية ألقابًا أوروبية عديدة جعلتها في القمة. لكن في العقدين الأخيرين تراجع هذا البريق بشكل ملحوظ؛ فبات السؤال المطروح بقوة: هل فقدت الكرة الإيطالية بريقها الأوروبي؟ سنحاول في هذا المقال الحواري والحازم الإجابة عبر تحليل أداء الأندية الإيطالية في أوروبا خلال العشرين سنة الأخيرة، ومناقشة تحولات الدوري الإيطالي، والتحديات المالية التي يواجهها، والتطورات التكتيكية في المدرسة الإيطالية، وظاهرة هجرة النجوم الإيطاليين إلى الخارج. سنقارن أيضًا وضع الكالتشيو مع الدوريات الأوروبية الكبرى، مستندين إلى بيانات ومؤشرات حديثة وآراء خبراء، لنرسم صورة شاملة لوضع الكرة الإيطالية الأوروبي اليوم.

الأندية الإيطالية في أوروبا: من الهيمنة إلى التراجع

عاشت الأندية الإيطالية فترة ذهبية أوروبياً في أواخر القرن العشرين، حيث هيمنت فرق مثل ميلان ويوفنتوس وإنتر ميلان على بطولات دوري الأبطال والدوري الأوروبي. خلال تلك الحقبة، تصدر الكالتشيو تصنيف بطولات الاتحاد الأوروبي لفترة ناهزت 15 عامًا لكن منذ مطلع الألفية الجديدة، تراجع حضور إيطاليا القاري بشكل واضح، خاصة بعد أزمة “الكالتشيو بولي” عام 2006. فعلى سبيل المثال، لم تحقق الأندية الإيطالية سوى 3 ألقاب في دوري أبطال أوروبا منذ عام 2000 (آخرها إنتر ميلان في 2010)، مقابل 10 ألقاب للأندية الإسبانية و6 للأندية الإنجليزية في الفترة نفسها. أما في بطولة اليوروبا ليغ (الدوري الأوروبي)، فكان آخر لقب إيطالي عام 1999 حين تُوّج بارما بكأس الاتحاد الأوروبي، ومنذ ذلك الحين لم يفز أي نادٍ إيطالي بهذه البطولة. هذا الجفاف الأوروبي يوضح حجم التراجع مقارنة بالماضي.

ورغم بعض الإشراقات – مثل وصول يوفنتوس إلى نهائي دوري الأبطال عامي 2015 و2017 دون تحقيق اللقب، وفوز روما بلقب دوري المؤتمر الأوروبي المستحدث عام 2022 – فإن الغلة الإيطالية من الألقاب القارية الكبرى ظلت محدودة جدًا. وقد بلغت الحسرة ذروتها في موسم 2022-2023 عندما وصلت 3 أندية إيطالية إلى المباراة النهائية في البطولات الأوروبية الثلاث (إنتر ميلان في دوري الأبطال، روما في الدوري الأوروبي، فيورنتينا في دوري المؤتمر)، لكنها جميعًا خسرت أمام منافسين من إنجلترا وإسبانيا. وبرغم الأداء المشرف الذي قدمته تلك الفرق، إلا أن النتيجة كانت تأكيدًا إضافيًا على تراجع بريق الكرة الإيطالية أوروبياً في مواجهة عمالقة القارة.

جدول أدناه يلخص آخر الإنجازات الإيطالية في البطولات الأوروبية الكبرى:

البطولة آخر إنجاز حققته الأندية الإيطالية
دوري أبطال أوروبا إنتر ميلان بطل عام 2010 (آخر نهائي: إنتر وصيف 2023)
الدوري الأوروبي بارما بطل عام 1999 (لم يصل أي فريق إيطالي للنهائي منذ 2020 سوى روما وصيف 2023)
دوري المؤتمر الأوروبي روما بطل عام 2022 (فيورنتينا وصيف 2023 في النسخة الثانية للبطولة)

كما يُلاحظ، مرت أكثر من عقدين على آخر تتويج إيطالي بدوري الأبطال وأكثر من ربع قرن على آخر تتويج في الدوري الأوروبي، ما يبرهن أن الكرة الإيطالية بالفعل فقدت كثيرًا من لمعانها الأوروبي السابق.

تحولات الدوري الإيطالي في العقدين الأخيرين

شهد الدوري الإيطالي سلسلة من التحولات الجذرية منذ مطلع الألفية. البداية كانت مع فضيحة الكالتشيو بولي عام 2006 التي زلزلت سمعة الكرة الإيطالية، وأدت إلى معاقبة أندية كبرى مثل يوفنتوس (إنزاله للدرجة الثانية وسحب ألقاب). تركت هذه الفضيحة أثرًا عميقًا على التنافسية محليًا وأوروبياً، حيث استغلت الدوريات الأخرى الفرصة للهيمنة بينما أعادت إيطاليا بناء منظومتها الكروية. ورغم عودة يوفنتوس وهيمنته محليًا في عقد 2010، فإن الكالتشيو عانى تراجعًا على المستوى القاري تجسد في خسارة مقعد إيطاليا الرابع المؤهل لدوري الأبطال عام 2011 لصالح البوندسليغا الألمانية. هذا التراجع في تصنيف الدوري الإيطالي كان مؤشرًا خطيرًا لدوري اعتاد تصدّر أوروبا في التسعينيات.

في الوقت نفسه، تغيّر مشهد المنافسة الداخلية. فبعد حقبة هيمنة يوفنتوس (2012-2020) محليًا، بدأنا نرى وجوهًا جديدة تتصدر المشهد مثل إنتر ميلان (بطل 2021) وميلان (بطل 2022) ونابولي (بطل 2023). عودة نابولي للتتويج بعد عقود وانبعاث ميلان وإنتر من جديد توحي بأن الدوري بات أكثر توازنًا. لكن هذا التوازن يأتي أحيانًا نتيجة تراجع القوة الشرائية والنجومية أكثر منه صحوة فنية؛ إذ لم يعد الدوري الإيطالي قادرًا على اجتذاب أفضل اللاعبين في العالم كما كان سابقًا. وأصبحت أنديته تجد صعوبة في الاحتفاظ بنجومها الصاعدين أمام إغراءات الدوريات الأغنى. فعلى سبيل المثال، شاهدنا رحيل نجوم بارزين عن الكالتشيو باتجاه الدوري الإنجليزي أو الفرنسي في أوج عطائهم (مثل انتقال بعض نجوم يوفنتوس وميلان إلى أندية كبرى خارج إيطاليا). وفي المقابل، اتجهت بعض الأندية الإيطالية للاعتماد أكثر على تطوير المواهب المحلية والشابة لتعويض نزيف النجوم.

ومن التحولات المهمة أيضًا مسألة البنية التحتية للملاعب والمنشآت الرياضية. فمعظم ملاعب الدوري الإيطالي تقادمت مقارنة بمثيلاتها في إنجلترا وألمانيا وإسبانيا. لم تشهد إيطاليا طفرة تحديث ملاعب كبيرة (باستثناءات محدودة مثل ملعب يوفنتوس الجديد)، مما أثّر على تجربة الجماهير وعوائد الأندية المالية. في حين أن العديد من الأندية الأوروبية الكبرى شيّدت ملاعب حديثة وعصرية توفر دخلاً إضافيًا وتسهم في تسويق أفضل، بقيت أندية الكالتشيو مرتبطة بملاعب بلدية قديمة ذات موارد محدودة. هذا التأخر في تحديث البنية التحتية انعكس سلبًا على قدرة الأندية الإيطالية على منافسة نظرائها ماليًا وفنيًا.

ومع ذلك، شهدت السنوات الأخيرة بوادر تغييرات إيجابية على المستوى الإداري. فقد استقطبت أندية إيطالية عدّة مستثمرين أجانب بهدف إعادة إحياء إرثها (مثل استحواذ مجموعات أمريكية على ميلان وروما وفيورنتينا وغيرها). وقد حقق بعضها نجاحات نسبية، مثل تجربة ميلان الذي تمكن تحت إدارة جديدة من ضبط أوضاعه المالية وتحقيق لقب الدوري وتحسين الأداء الأوروبي. هذه الخطوات تشير إلى إدراك المعنيين بضرورة إصلاح شامل لاستعادة مكانة الدوري. لكن الطريق ما زال طويلاً، بخاصة في ظل تحديات مالية خانقة سنناقشها تالياً.

التحديات المالية وانعكاساتها على التنافسية

لا يمكن فهم تراجع الكرة الإيطالية أوروبيًا دون النظر إلى العوامل المالية. فالدوري الإيطالي بات يعاني ماليًا مقارنة بالدوريات الكبرى الأخرى. تشير التقارير إلى أن الأندية الإيطالية سجلت خسائر قياسية بلغت 1.5 مليار دولار في موسم 2021-2022 – وهو أسوأ عجز جماعي منذ 15 عامًا – رغم دخول مستثمرين دوليين لضخ الأموال. تراكمت الديون لتتجاوز 6.1 مليار دولار، مما جعل العديد من الأندية على حافة الإفلاس لولا دعم المالكين أو الحكومة. وقد كان لجائحة كوفيد-19 أثر مدمر على مالية الكالتشيو، حيث هوت عائدات التذاكر بشكل حاد خلال موسم 2020-2021.

أيضًا تعاني الأندية الإيطالية من تخلف في عائدات البث التلفزيوني والرعاية مقارنة بالبريميرليغ والدوري الإسباني. فقد انخفضت إيرادات بث مباريات الدوريات الإيطالية (سيري A وB وC) من حوالي 1.5 مليار يورو في 2019 إلى 1.4 مليار في 2022، في وقت تتضاعف فيه عقود بث الدوريات الإنجليزية والإسبانية عالميًا. وتعتمد الأندية الإيطالية على الرعاة المحليين بنسبة تفوق 80%، ما يعني اعتمادًا كبيرًا على السوق المحلية المحدودة. بالمقابل، تمتلك أندية الدوري الإنجليزي على سبيل المثال قاعدة رعاة دوليين أوسع (فقط 53% من عقود الرعاية في إنجلترا محلية الصنع والباقي عالمي). هذا الفارق في التسويق العالمي يجعل موارد الإنجليز أضخم بكثير من موارد نظرائهم الإيطاليين.

انعكس هذا الوضع المالي الضعيف على القدرة التنافسية في سوق الانتقالات. فبينما تنفق أندية إنجلترا وإسبانيا مئات الملايين سنويًا لضم أفضل اللاعبين، نجد كثيرًا من أندية إيطاليا تقنع بصفقات انتقال حر أو إعارات أو مواهب شابة قليلة التكلفة. على سبيل المثال، اعتمدت روما في مواسم أخيرة استراتيجية جلب لاعبين بالمجان أو على سبيل الإعارة لتعزيز تشكيلتها. وأصبح الدوري الإيطالي “دوريًا بائعًا” يضطر لبيع نجومه الواعدين لتحقيق التوازن المالي، كما حدث مع انتقال لاعبين واعدين إلى أندية أغنى في إنجلترا وفرنسا. ومما زاد الطين بلة، أن قيمة العلامة التجارية للدوري الإيطالي عالميًا تراجعت، فلم تعد تجذب عقود الرعاية الضخمة كما في السابق. فالأندية الإيطالية فشلت نسبيًا في بناء قاعدة جماهيرية عالمية تضاهي أندية بحجم ريال مدريد وبرشلونة ومانشستر يونايتد، ما أثّر على قوتها التسويقية.

ومع ذلك، هناك بعض النقاط المضيئة. نادي ميلان مثلًا تبنى نموذجًا ماليًا منضبطًا تحت إدارة إليوت ماندجمنت ثم ريدبيرد كابيتال، ونجح في خفض التكاليف وسداد الديون وتحقيق أرباح تشغيلية لأول مرة منذ سنوات. هذا التحسن المالي رافقه نجاح رياضي بالتتويج بلقب الدوري 2021-2022. وتجربة ميلان قد تشجع أندية أخرى على اتباع سياسات مالية أكثر حكمة واستدامة بدل المجازفة بصفقات كبيرة غير مضمونة. أيضًا دخول مستثمرين جدد (أمريكيين وخليجيين) لملكية بعض الأندية وفّر سيولة مهمة – كما حصل مع استحواذ صندوق أمريكي على أسهم أتلانتا مؤخراً – وساعد على تحسين جودة بعض الفرق التي أصبحت تنافس أوروبيًا بشكل أفضل.

رغم ذلك، تبقى الفجوة المالية هائلة بين الكالتشيو والبريميرليغ خصوصًا. فمثلاً، بلغت القيمة الإجمالية لصفقات انتقالات أندية الدوري الإنجليزي صيف 2023 ما يزيد عن 2 مليار يورو، بينما لم تتجاوز في إيطاليا 550 مليون تقريبًا في نفس الفترة. هذه الفوارق تظهر أنه ما لم تتحسن الموارد المالية بشكل جذري (عبر بيع حقوق بث أعلى قيمة، وتحديث الملاعب، وجذب رعاة عالميين)، سيظل من الصعب على الأندية الإيطالية مقارعة عمالقة أوروبا الذين يمتلكون ميزانيات تفوقها بأضعاف.

التطورات التكتيكية في المدرسة الإيطالية

ارتبطت المدرسة الإيطالية في كرة القدم تاريخيًا بفلسفة لعب خاصة تركز على الانضباط الدفاعي والتنظيم التكتيكي – أو ما يعرف بأسلوب “الكرة الدفاعية” وكاتيناتشو الشهيرة. وقد أنجبت إيطاليا عبر العقود عقولًا تدريبية لامعة مثل أريغو ساكي وفابيو كابيلو وجيوفاني تراباتوني وغيرهم ممن قادوا أنديتهم ونظموا دفاعاتهم بصلابة أسطورية. لكن السؤال اليوم: هل لا يزال الأسلوب الإيطالي الكلاسيكي صالحًا في مواجهة التكتيكات الحديثة السريعة والضغط العالي الذي تتبناه الأندية الإنجليزية والألمانية؟

مع مطلع الألفية الجديدة، بدأ البعض يوجه النقد للكرة الإيطالية بأنها لم تواكب التطور التكتيكي بالقدر الكافي. فقد حافظت كثير من الفرق على نهج حذر دفاعيًا وإيقاع أبطأ نسبيًا في اللعب، في وقت انتقلت فيه كرة القدم الأوروبية نحو أساليب أكثر اندفاعًا وسرعة. ونتيجة لذلك، بدت الأندية الإيطالية أحيانًا عاجزة عن مجاراة كثافة وضغط الفرق الإنجليزية والإسبانية في المواجهات القارية. ويشير محللون إلى أن الدوري الإيطالي يمنح الفرصة بشكل أكبر للاعبين المخضرمين على حساب المواهب الشابة، ما أدى إلى انخفاض المعدل البدني والسرعة في المباريات. هذا الأمر دفع مدرب المنتخب السابق روبرتو مانشيني إلى مناشدة الأندية بمنح مساحة أكبر للشباب لإضفاء حيوية على إيقاع اللعب المحلي.

لكن في السنوات الأخيرة، شهدت التكتيكات في إيطاليا تحولات ملموسة. ظهر جيل جديد من المدربين الإيطاليين الذين تبنوا أساليب أكثر جرأة وهجومية. على سبيل المثال، قدم جيان بييرو غاسبيريني مع أتلانتا كرة قدم هجومية ممتعة أبهرت أوروبا بوصول الفريق إلى ربع نهائي دوري الأبطال 2020. كذلك استطاع روبرتو دي زيربي (المدرب الإيطالي الشاب الذي تألق في تدريب ساسولو ثم انتقل لإنجلترا) أن يكسب الإشادة بأسلوب لعبه الضاغط والسريع. أيضًا المدربون مثل سيموني إنزاغي ولوتشيانو سباليتي تبنوا نهجًا متوازنًا قاد فرقهم لنجاحات أوروبية نسبية (إنتر ميلان وصل نهائي الأبطال 2023 بأسلوب مرن جمع بين الصلابة الدفاعية والارتداد الهجومي السريع).

رغم ذلك، لا يزال البعض يرى أن “DNA” الكرة الإيطالية يميل للدفاع والتحفظ في اللحظات الحاسمة. فمثلًا، انتُقد يوفنتوس في نهائيات 2015 و2017 لتراجعه المبالغ فيه أمام برشلونة وريال مدريد. كما يُؤخذ على بعض الفرق المتوسطة في الكالتشيو غياب الجرأة أمام الكبار أوروبيًا. بيد أن الوجه الآخر للصورة هو أن المدرسة الإيطالية تبقى غنية تكتيكيًا وتفرز دائمًا حلولاً إبداعية. يكفي أن نتذكر كيف تفوق المدرب الإيطالي كارلو أنشيلوتي على أحدث التكتيكات بقيادته ريال مدريد للقب دوري الأبطال 2022 بخبرة وحنكة، أو كيف قلب روبرتو مانشيني التوقعات وقاد المنتخب الوطني للقب اليورو بأسلوب ممتع في 2021 مخالفٍ للصورة النمطية.

باختصار، الكرة الإيطالية تشهد صراعًا بين المحافظة على هوية تكتيكية تاريخية قائمة على الدفاع المنظم، وبين مجاراة الحداثة الكروية باللعب الضاغط والهجومي. نجاح الفرق الإيطالية مستقبلًا قد يعتمد على قدرتها على المزج بين الأمرين: صلابة المدرسة القديمة مع جرأة الأساليب الجديدة. والمؤشرات تبعث على التفاؤل بظهور جيل مدربين ولاعبين يحقق هذا المزيج بنجاح.

هجرة النجوم وندرة المواهب العالمية

عندما كانت أندية إيطاليا في أوج مجدها، كانت تضم بين صفوفها غالبية أفضل لاعبي العالم. أما اليوم، فالمشهد مختلف كثيرًا؛ فالنجوم الإيطاليون والمواهب الصاعدة غالبًا ما يغادرون الكالتشيو باتجاه دوريات أغنى وأعلى تنافسية. هذه الهجرة الكروية لها وجهان: رحيل اللاعبين الإيطاليين أنفسهم إلى الخارج، وعزوف النجوم الأجانب عن القدوم إلى إيطاليا كما في السابق.

بالنسبة للاعبين الإيطاليين، أصبح الاحتراف في الخارج خيارًا متزايدًا نظرًا للعوائد المالية الأكبر والتنافسية الأعلى. ومع ذلك، يلاحظ أن عدد الإيطاليين في أبرز الدوريات الأوروبية ما زال محدودًا مقارنة بلاعبي دول كروية كبرى أخرى. على سبيل المثال، في موسم 2022/2023 تواجد 4 لاعبين إيطاليين فقط في الدوري الإنجليزي الممتاز بأكمله (منهم جورجينيو وסקاماتكا وإيمرسون وأوجبونا)، وهو رقم ضئيل جدًا إذا قورن بعدد الإسبان أو الفرنسيين أو الألمان في نفس الدوري. هذا المؤشر يثير التساؤل حول قدرة المواهب الإيطالية على الاختراق عالميًا؛ هل المشكلة في جودة التكوين أم في تفضيل اللاعبين البقاء محليًا أم في عدم إقبال الأندية الكبرى عليهم؟ ربما مزيج من ذلك، لكن الحصيلة أن قلة انتشار الإيطاليين خارجيًا يحرمهم من احتكاك أقوى قد ينعكس على مستوى المنتخب أيضًا.

أما بالنسبة لجذب النجوم الأجانب، فقد تراجع كثيرًا. في الماضي كانت أسماء بحجم مارادونا وزيدان ورونالدو الظاهرة وكاكا وغيرهم تتألق في ملاعب إيطاليا. اليوم، من النادر أن نرى لاعبًا يُصنَّف من بين الأفضل عالميًا يختار الانتقال إلى الكالتشيو في قمة عطائه. فالدوري الإنجليزي على سبيل المثال بات الوجهة المفضلة لنجوم الصف الأول نظرًا للرواتب الضخمة والأضواء الإعلامية هناك. وحتى النجوم الذين يبرزون في إيطاليا سرعان ما يخطفهم كبار أوروبا: رأينا ذلك مع انتقال كريستيانو رونالدو نفسه من يوفنتوس بعد فترة قصيرة، ورحيل حكيمي ولوكاكو من إنتر ميلان إلى فرق في دوريات أخرى، وغيرها من الأمثلة. كما أن العديد من مواهب الكالتشيو الصاعدة يتم اصطيادها مبكرًا؛ على سبيل المثال، الحارس دوناروما غادر ميلان إلى باريس سان جيرمان في أوج تألقه، والجناح كييزا ارتبط اسمه مؤخرًا بأندية في إنجلترا.

هذه الهجرة الجماعية تضعف دون شك جودة الدوري الإيطالي ومستوى المنافسة فيه. فغياب الأسماء الرنانة يقلل الاهتمام العالمي بالكالتشيو، ويؤدي بالتالي إلى تقلص مداخيله الإعلامية والتسويقية، ليعود في تأثير سلبي دائري على قدرته في الاستثمار وجذب النجوم مجددًا. إنه حلقة مفرغة تحاول الكرة الإيطالية كسرها. أحد الحلول المطروحة كان الاستثمار أكثر في قطاع الناشئين لإنتاج نجوم محليين جدد يعيدون إحياء سمعة “صنع في إيطاليا”. وقد بدأت بعض النتائج الإيجابية بالظهور مع بزوغ مواهب شابة مثل نيكولو باريلا وساندرو تونالي وغيرهم الذين أصبحوا عمادًا لأنديتهم وللمنتخب. لكن حتى هذه المواهب يجد الكالتشيو صعوبة في الاحتفاظ بها أمام الإغراءات الخارجية.

ومما زاد من حدة المشكلة أن المنتخب الإيطالي نفسه عانى نتيجة ندرة النجوم المحليين المتألقين. صحيح أنه فاز بلقب يورو 2020 بأداء جماعي رائع، لكن صدمة الفشل في التأهل لكأس العالم لعامي 2018 و2022 دقت ناقوس الخطر. هذا الإخفاق المونديالي – الأول لإيطاليا منذ عقود – كشف وجود خلل في عملية إحلال وتجديد الأجيال وفي تخريج المواهب القادرة على المنافسة على أعلى مستوى. وقد أرجع البعض ذلك إلى نقص احتكاك اللاعبين الشباب في البطولات الكبرى، وإلى تفضيل الأندية الإيطالية للاعب الجاهز (وأحيانًا الأجنبي الأكبر سنًا) على حساب ابن الأكاديمية الإيطالي.

في المجمل، يمكن القول إن الكرة الإيطالية فقدت جزءًا من بريقها الأوروبي بسبب نزيف النجوم. إعادة ذلك البريق تتطلب إستراتيجية مزدوجة: كبح هجرة المواهب عبر تحسين ظروف الدوري ماديًا وفنيًا لجعله وجهة جاذبة للبقاء، وفي نفس الوقت استقطاب نجوم دوليين مجددًا لضخ الجودة والخبرة في المسابقات الإيطالية. دون ذلك، قد تبقى فرق إيطاليا متأخرة خطوة عند مقارنتها بفريقي القمة في إسبانيا وإنجلترا حيث تجتمع أفضل مواهب العالم.

مقارنة الكالتشيو بالدوريات الأوروبية الكبرى

لمعرفة مدى تراجع بريق الكرة الإيطالية، يكفي أن نقارن وضع الدوري الإيطالي الراهن بنظرائه في إنجلترا وإسبانيا وألمانيا. فعلى صعيد التصنيف الأوروبي للاتحادات (وفق معامل اليويفا)، تراجع ترتيب إيطاليا في سنوات ما بعد 2010 ليصل إلى المركز الرابع خلف إنجلترا وإسبانيا وألمانيا، بعدما كان الكالتشيو متسيدًا في التسعينيات. صحيح أن إيطاليا استعادت المركز الثالث مؤخرًا في بعض تحديثات التصنيف نتيجة تحسن نتائج أنديتها، بل ووصلت وفق تصنيف خمس سنوات 2020-2024 إلى المركز الثاني أحيانًا، إلا أن الفجوة مع الدوري الإنجليزي الممتاز خاصة تبقى واسعة. فالبريميرليغ اليوم هو الأقوى ماليًا وتسويقيًا دون منازع، ويليه الدوري الإسباني الذي يتمتع بقاعدة جماهيرية عالمية بفضل ريال مدريد وبرشلونة. ثم يأتي الدوري الألماني مستفيدًا من نموذج اقتصادي قوي وأندية مملوكة جماهيريًا ذات استقرار كبير. في المقابل، يجد الدوري الإيطالي نفسه يصارع للحفاظ على موقعه في مواجهة الدوري الفرنسي الذي يقترب خلفه مدفوعًا باستثمارات باريس سان جيرمان.

على مستوى الألقاب الأوروبية في العقد الأخير، سنجد هيمنة إسبانية وإنجليزية واضحة. فالدوري الإسباني أحرز لقب دوري الأبطال 7 مرات في آخر 10 سنوات (معظمها لريال مدريد) مقابل مرتين لإنجلترا ومرة لألمانيا، بينما غاب التتويج عن إيطاليا طوال تلك السنوات. وفي اليوروبا ليغ، حصدت إسبانيا وإنجلترا النصيب الأكبر كذلك، ولم يصل فريق إيطالي حتى إلى المباراة النهائية طيلة الفترة بين 2000 و2019. وحتى بعد وصول إنتر وروما لنهائيي الدوري الأوروبي 2020 و2023 تواليًا، لم يتمكنا من الفوز. هذه المقارنات الرقمية تؤكد الفارق بين ما تحققه أندية الكالتشيو وما تحققه أندية الدوريات الأخرى في المحافل القارية.

عوامل التفوق لدى الآخرين تتنوع. في إنجلترا: موارد مالية هائلة من حقوق البث والرعاة العالميين، ملاك أثرياء من مختلف الجنسيات يستثمرون بلا حدود، ومدربون ولاعبون من أعلى مستوى يتجمعون في دوري واحد. النتيجة هي تنافسية محلية شرسة تفرز فرقًا جاهزة أوروبيًا (بدليل وصول إنجليزيين لنهائي الأبطال 2019 ونهائي 2021 وفوز إنجليزي باللقب في 2019 و2021 و2023). في إسبانيا: جودة فنية عالية ومدارس كروية عريقة (برشلونة وريال وأتلتيكو) تمتلك خبرات طويلة أوروبياً، ونجوم عالميين يجذبهم إرث هذه الفرق. كذلك وجود ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو لعقد من الزمن في الليغا عزز من تألقها القاري. في ألمانيا: على الرغم من أن البوندسليغا أقل ثراءً من إنجلترا وإسبانيا، إلا أن وجود عملاق مثل بايرن ميونيخ يضمن لألمانيا منافسة على الألقاب (بايرن بطل أوروبا 2020 وأحد كبار القارة دائمًا)، فضلاً عن الحضور الجماهيري الضخم والثقافة الاحترافية العالية التي تساعد الفرق الألمانية على الثبات.

بالمقابل، نجد أنه حين تنافس الفرق الإيطالية نظريًا على قدم المساواة، تكون لديها حظوظ لا يستهان بها. فعندما وصل إنتر ميلان إلى نهائي الأبطال 2023، لم يكن خصمًا سهلًا وخسر بصعوبة أمام مانشستر سيتي المدجج بالنجوم. وكذلك روما في نهائي الدوري الأوروبي 2023 كان قاب قوسين من الفوز لولا ركلات الترجيح أمام إشبيلية صاحب الخبرة. هذه الأمثلة تظهر أن الكرة الإيطالية لا تزال قادرة على مقارعة الكبار في المباراة الواحدة، لكنها تفتقد للاستمرارية والعمق الذي تتمتع به أندية الدوريات الأغنى.

خلاصة المقارنة أن الدوري الإيطالي حالياً يقع في المرتبة الثالثة أو الرابعة أوروبياً من حيث القوة الشاملة. يتقدم عليه الإنجليزي والإسباني بوضوح، ويقاربه الألماني، بينما يتفوق على الفرنسي رغم تقارب المستوى مع ظهور باريس سان جيرمان كمهيمن هناك. هذا الوضع لم يرض عشاق الكرة الإيطالية الذين اعتادوا على القمة، لكنه الواقع الذي أفرزته عوامل مادية وفنية متراكمة. وبالطبع، يبقى الأمل معقودًا على إمكانية سد هذه الفجوة عبر الإصلاحات والتطور التدريجي.

خاتمة: هل تستعيد الكرة الإيطالية بريقها المفقود؟

لا شك أن الكرة الإيطالية مرت بفترة انحسار في بريقها الأوروبي خلال العقدين الماضيين. تراكمت الأسباب من فضائح وهزات محلية إلى تحديات مالية خانقة وتراجع تكتيكي نسبي وهجرة للمواهب، مما جعل الكالتشيو يتراجع خطوة خلف الدوريات الأوروبية الكبرى. لكن في الوقت ذاته، هناك بوادر صحوة وإرادة للتغيير. فقد بدأت بعض الأندية في اتخاذ إجراءات تصحيحية، وشهدنا ومضات نجاح مثل تتويج إيطاليا بكأس أوروبا 2020 وتألق أندية كNapoli وإنتر أوروبيًا حديثًا.

إجابة السؤال “هل فقدت الكرة الإيطالية بريقها الأوروبي؟” ليست نعم قاطعة ولا لا مطلقة. الحقيقة أنها فقدت جزءًا ملموسًا من ذلك البريق بكل تأكيد – فزمن التسعينيات الذهبي ولّى – لكنها لم تفقده كليًا إلى غير رجعة. لا تزال كرة القدم الإيطالية تملك مقومات النهوض: تاريخ كروي عريق، جماهير شغوفة، أندية لها إرث كبير، ومدرسة تكتيكية فريدة من نوعها. هذه العوامل تمنح إيطاليا أساسًا صلبًا يمكن البناء عليه لاستعادة المجد.

إن عودة الكرة الإيطالية إلى القمة الأوروبية تتطلب رؤية استراتيجية شاملة تتبناها الأندية والاتحاد المحلي معًا. هذه الرؤية يجب أن تشمل إصلاحات جذرية، منها: جذب استثمارات جديدة وضخ أموال لتطوير البنية التحتية والملاعب، تحسين أساليب الإدارة المالية لضمان استقرار الأندية وتنافسيتها، الاستثمار المكثف في قطاع الناشئين وأكاديميات الشباب لصناعة جيل جديد من النجوم المحليين، وتسويق الدوري عالميًا بشكل أفضل لإعادة جاذبيته تجاريًا وجماهيريًا. كما أن الانفتاح على الأساليب التدريبية الحديثة والتعلم من تجارب الدوريات الأخرى سيكون ضروريًا لمواكبة تطور اللعبة.

باختصار، نعم تراجع بريق الكالتشيو الأوروبي حاليًا، لكن ومضات الأمل موجودة. الكرة الإيطالية قادرة على العودة إلى الواجهة بشرط أن تستفيد من دروس الماضي وتتكيف مع معطيات الحاضر. فكما نهضت إيطاليا من قبل أكثر من مرة بعد كبوات (سواء بعد كارثة هيزل 1985 أو فضيحة 2006) وعادت لتحقيق الألقاب، يمكنها مجددًا النهوض من ظل الدوريات الأخرى. سيحتاج ذلك لوقت ولعمل شاق بلا شك، ولكن عشاق الآتزوري والكالتشيو يؤمنون أن بريق الكرة الإيطالية سيظل موجودًا وإن خفت، ويمكن أن يلمع من جديد في سماء أوروبا قريبًا إذا صُقلت عوامله بعناية. الأيام وحدها ستجيب إن كانت إيطاليا ستستعيد مكانتها في ساحة المجد الأوروبي أم لا – لكن المؤكد أن روح الدوري الإيطالي لم تنطفئ، والطموح لا يزال مشتعلاً للعودة بين الكبار.

شارك المقال شارك غرد إرسال