من الهامش إلى المركز
لطالما كانت كرة القدم لعبة الشعوب، لكن لسنوات طويلة، بقي الدور العربي فيها هامشيًا. رغم الحضور الجماهيري الكبير والبنية الشغوفة باللعبة، كانت المنتخبات العربية والأندية الخليجية تُعامل على أنها “الطرف الأضعف” في الساحة الكروية العالمية. اليوم، يبدو المشهد مختلفًا تمامًا. من استقطاب النجوم العالميين إلى استضافة أكبر البطولات، ومن صعود المنتخبات في المونديال إلى توسع الاستثمارات، تُطرح بقوة فكرة: هل نشهد بداية زمن هيمنة العرب على كرة القدم؟
الاستثمار السعودي: اللعبة تغيرت
أحدث دخول السعودية على خط الاستثمار في كرة القدم زلزالًا في موازين اللعبة. لم يكن التوقيع مع كريستيانو رونالدو عام 2023 سوى البداية، حيث تتابعت بعدها صفقات ضخمة شملت أسماء مثل كريم بنزيما، نيمار، رياض محرز، وكانتي وغيرهم. هذه الصفقات لم تأتِ من فراغ، بل ضمن مشروع استراتيجي مرتبط بـ رؤية السعودية 2030، التي تضع الترفيه والرياضة ضمن أولوياتها الوطنية.
ماذا تحقق حتى الآن؟
- ارتفاع القيمة السوقية للدوري السعودي إلى أكثر من 2.5 مليار دولار.
- عقود نقل تلفزيوني عالمية مع منصات مثل DAZN.
- تدفق جماهيري محلي وعالمي غير مسبوق.
- احتلال أندية سعودية مراكز متقدمة في دوري أبطال آسيا.
لا يخفى أن الهدف من هذه الخطوات ليس فقط الفوز محليًا، بل دخول مضمار التنافس العالمي في صناعة كرة القدم.
قطر: من الحلم إلى الريادة
استضافة قطر لكأس العالم 2022 كانت نقطة تحول حقيقية. للمرة الأولى، يُقام المونديال في بلد عربي، والنتائج لم تكن سطحية:
- تنظيم مثالي أشاد به الإعلام العالمي.
- منشآت رياضية عالمية ستخدم المنطقة لعقود.
- حضور جماهيري عربي غير مسبوق.
- أداء مشرّف للمنتخبات العربية، خاصة المغرب والسعودية.
لكن ما بعد كأس العالم كان الأهم، فقد حافظت قطر على استثمارها في كرة القدم من خلال ملكية نادي باريس سان جيرمان عبر مجموعة قطر للاستثمارات الرياضية، وتوسيع شبكتها الإعلامية الرياضية عالميًا.
المغرب: ملحمة مونديالية وهويّة قارية
لا يمكن الحديث عن صعود العرب دون الوقوف عند ملحمة المغرب في كأس العالم 2022. تأهل أسود الأطلس إلى نصف النهائي كأول منتخب إفريقي وعربي يحقق هذا الإنجاز، قلب المفاهيم، وقدم للعالم فريقًا تكتيكيًا منظمًا، يجمع بين لاعبي المهجر والمحليين.
ما وراء الإنجاز:
- بنية فنية تعتمد على مواهب أكاديميات مثل محمد السادس.
- جهاز فني عصري بقيادة وليد الركراكي.
- دعم شعبي ورسمي جعل من كرة القدم قضية وطنية.
وقد استثمر المغرب هذا الزخم في تعزيز ملفه المشترك مع إسبانيا والبرتغال لاستضافة مونديال 2030.
مصر وتونس والجزائر: الحضور القوي رغم التحديات
رغم الغياب المصري والجزائري عن مونديال قطر، إلا أن كرة القدم في شمال إفريقيا لا تزال راسخة:
- النادي الأهلي المصري حقق دوري أبطال إفريقيا مرارًا، ونافس بقوة في كأس العالم للأندية.
- الترجي والنجم الساحلي والرجاء والوداد يواصلون تمثيل العرب في البطولات القارية.
- مواهب جزائرية ومصرية تُبدع في أوروبا، مثل رياض محرز، إسماعيل بن ناصر، ومحمد صلاح.
التحدي هنا هو ترجمة هذه القوة القارية إلى حضور عالمي أكثر اتساعًا.
اللاعبون العرب في أوروبا: من التهميش إلى النجومية
في الماضي، كان اللاعب العربي يُنظر إليه كخيار ثانوي في أوروبا. اليوم، بات من الطبيعي أن تجد أسماء عربية تتألق في أهم الدوريات:
- محمد صلاح: أحد أفضل لاعبي البريميرليغ، ومرشح دائم للكرة الذهبية.
- أشرف حكيمي: نجم باريس سان جيرمان وأحد أفضل الأظهرة في العالم.
- سفيان أمرابط: قدم أداءً خارقًا في كأس العالم، ما فتح له أبواب مانشستر يونايتد.
هذا التقدم يُحدث تغييرًا في التصور العالمي حول اللاعب العربي، ويخلق قدوة للجيل القادم.
البنية التحتية: من ملاعب الحواري إلى ملاعب النخبة
جزء كبير من التقدم العربي يعود إلى الطفرة في البنية التحتية:
- افتتاح ملاعب حديثة في السعودية وقطر والإمارات والمغرب.
- إطلاق أكاديميات مواهب بالشراكة مع أندية أوروبية.
- تطوير منظومات الاحتراف والإدارة الرياضية.
باتت دول عربية تُنظّم بطولات قارية وعالمية باحترافية تضاهي أوروبا، ما يجعلها لاعبًا لا يمكن تجاهله.
تحديات يجب مواجهتها
رغم كل هذا التقدم، لا تزال هناك عقبات أمام الهيمنة الكاملة:
- ضعف المنافسات المحلية في بعض الدول.
- غياب الحوكمة والشفافية في إدارات الأندية.
- الاعتماد على الصفقات بدلاً من بناء المواهب.
- قلة المدربين المحليين المؤهلين.
- محدودية التسويق العالمي للأندية العربية.
تخطي هذه التحديات ضروري للانتقال من الإنجازات المرحلية إلى الاستمرارية.
هل العرب على أعتاب الهيمنة؟ رأي تحليلي
الإجابة المختصرة: نعم، ولكن بشرط.
الزخم الحالي في الاستثمار، النتائج، والحضور الإعلامي العربي في الكرة العالمية غير مسبوق. لكن التحول من لاعب مؤثر إلى قوة مهيمنة يتطلب:
- مشروعًا طويل المدى يستثمر في الإنسان قبل الصفقات.
- تطعيم الدوريات العربية بمدربين ومحللين عالميين.
- إدماج الرياضة في المنظومة التعليمية والثقافية.
- الحفاظ على الهوية العربية مع الانفتاح على الاحتراف.
إن استمرت هذه الخطوات، فإن كرة القدم لن تبقى حكرًا على أوروبا وأمريكا الجنوبية، وسنرى قريبًا دوريًا عربيًا يُنافس البريميرليغ، ومنتخبًا عربيًا يتوّج بكأس العالم.
خاتمة: لحظة العرب الكروية بدأت… فهل تستمر؟
ما يحدث اليوم ليس مجرد فورة صفقات أو صدفة مونديالية. إنها لحظة تحول استراتيجي مدفوع بالإرادة السياسية، والدعم الشعبي، والبنية التحتية المتطورة.
لكن النجاح لا يُقاس فقط بالماضي أو الحاضر، بل بالقدرة على تحويل هذه اللحظة إلى مستقبل مستدام. العرب اليوم أقرب من أي وقت مضى لفرض هيمنتهم على الكرة العالمية، ويبقى السؤال: هل نملك النفس الطويل لنحصد الثمار؟
الكرة في ملعبنا. حرفيًا.